المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

مواجهة العجز: اتجاهات تقرير ميونخ للأمن العالمي في عام 2022

تحت عنوان “تحول المد والتخلص من العجز”، صدر تقرير ميونخ الأمني السنوي، في فبراير 2022، ليلقي الضوء على التهديدات الأمنية ذات الامتدادات والتأثيرات العالمية، مع تزايد الانكشاف الأمني في القارة الأوروبية، وعجز الديمقراطيات عن مواجهة الأزمات الدولية، وفشل المجتمع الدولي في مواجهة جائحة كوفيد-19، والإخفاق في المواجهة المستدامة للتغيرات المناخية، وتصاعد عدم الاستقرار العالمي والتنافس الجيواستراتيجي، إلى جانب التداعيات الكارثية للانسحاب الأمريكي من أفغانستان. كما تناول التقرير تهديدات منطقة الساحل والقرن الإفريقي، مع فشل المقاربة الأوروبية في التعامل مع أزمات المنطقة، وتغلغل روسيا لملء الفراغ الغربي بها، وانكشاف الجهود الإنمائية الدولية بمنطقة الساحل، والإخفاق في مواجهة الإرهاب، وتحول منطقة القرن الإفريقي إلى بؤرة للتوتر، بالإضافة إلى محدودية دور بعثات حفظ السلام بالقرن الإفريقي. وعلى الصعيد الأوروبي، حلل التقرير باستفاضة أبعاد تصاعد التهديدات الروسية لأمن أوروبا والناتو، أمنياً وعسكرياً واقتصادياً، من خلال استعراض المنطلقات الروسية للأزمة الأوكرانية القائمة وتداعياتها الارتدادية على روسيا نفسها، ثم استعرض التقرير مخاطر عدم الاستدامة والتداعيات الاقتصادية العالمية لجائحة كوفيد-19.

تهديدات عالمية

بحسب تقرير ميونخ الأمني السنوي لعام 2022، هناك العديد من التهديدات الأمنية ذات الامتدادات والتأثيرات العالمية، التي خلّفها عام 2021، والتي يمكن استعراضها على النحو التالي:

1- تزايد الانكشاف الأمني في القارة الأوروبية: باتت الدول الأوروبية منكشفة على تهديدات أمنية تقليدية، ممثلة في مخاطر اندلاع نزاع مسلح في أوكرانيا، وتهديدات أخرى غير تقليدية، منها: استمرار مواجهة تداعيات تفشي فيروس كوفيد-19 التي لم تنتهِ بعد، إلى جانب التغيرات المناخية التي تمثل تهديداً حقيقياً وخطيراً لكافة الدول، مما أدى إلى شعور أوروبي بالعجز عن مواجهة تلك التهديدات الأمنية المتصاعدة. وهنا تنبع أهمية التعاون الدولي متعدد الأطراف، وتعميق المناقشات الأوروبية حول كيفية التغلب على هذا العجز، لا سيما وأن أوروبا رغم قدرتها الاقتصادية الكبيرة فإنها تبدو كقزم سياسي في الساحة العالمية في ظل تزايد موجات الأزمات التي تواجهها القارة العجوز.

2- عجز الديمقراطيات عن مواجهة الأزمات الدولية: شهد عام 2021 العديد من المتغيرات الجيوسياسية ومنها: الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان، وتصاعد التوترات التقليدية في عدة مناطق، والتنافس الدولي على بسط النفوذ في منطقة الهندوباسيفيك، الأمر الذي حدا بمؤشر ميونخ للأمن إلى رصد مستوى مرتفع للمخاطر التي تهدد الدول السبع الصناعية الكبرى، ومجموعة “بريكس”، حيث كشف المؤشر عن أن تلك الدول تشعر بالمزيد من التوتر والقلق بسبب أزمات قديمة متجددة، منها: الهجرة الجماعية، ونقص الغذاء، وتغير المناخ، والإرهاب والتطرف، والتوتر بين القوى الغربية وروسيا، وزيادة عدم المساواة والعنصرية، والحروب التجارية، ومخاوف من انتشار الأسلحة النووية، والهجمات السيبرانية. وفي مواجهة مثل هذه التحديات تظهر الديمقراطيات الليبرالية بشكل خاص عاجزة في نظر الكثيرين، بينما الدول ذات الحكومات الشمولية والاستبدادية (مثل: روسيا، والصين) تُظهر الثقة والحسم بشكل أكبر مقارنة مع الدول الديمقراطية الليبرالية.

3- فشل المجتمع الدولي في مواجهة جائحة كوفيد-19: على مدى العامين الماضيين كان المجتمع الدولي منشغلاً في مواجهة تداعيات جائحة كوفيد-19، وهو أمر مرشح بقوة للاستمرار في عام 2022. وذلك لأن الاستجابات السياسية في معظم الدول، حتى في تلك التي لديها القدرات والموارد اللازمة، شابتها بعض الأخطاء. حيث تخلت بعض الحكومات عن مسؤوليتها وتجاهلت النصائح العلمية لمواجهة الفيروس، وبالتالي فشلت في حماية صحة ورفاهية مواطنيها. ونتج عن استمرار الأزمة للعام الثالث حالة من “الإرهاق” لدى حكومات الدول الأوروبية لمواجهة تداعيات تفشي فيروس كورونا. وعلى المستوى الدولي، كان رد الفعل على الوباء أكثر إحباطاً، وفشلت الدول الأوروبية في التنسيق متعدد الأطراف، وعمل كل منها بشكل انفرادي في كثير من الأحيان.

4- الإخفاق في المواجهة المستدامة للتغيرات المناخية: يوضح مؤشر الأمان الخاص “بمؤتمر ميونخ الأشخاص في جميع أنحاء العالم لديهم قلق متزايد من تأثيرات التغييرات المناخية، ولا سيما بعد سلسلة من ظواهر الطقس المتغيرة، مثل الفيضانات الصيفية في ألمانيا وكندا، وحرائق الغابات في سيبيريا واليونان والهند، وتصاعد موجات الحر والجفاف في الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل. وقد حذرت التقارير الدولية من أن “التغيرات المناخية” ستصبح “واسعة الانتشار وأسرع وأكثر حدة” ما لم يحدث تخفيض في الانبعاثات الحرارية مما يقلل درجة حرارة الأرض بمعدل (1.5 – 2 درجة مئوية)، وهو هدف يبدو بعيد المنال في ظل الاستراتيجيات الدولية غير الحاسمة في التعامل مع هذه المعضلة البيئية ذات التأثيرات الكارثية على صعيد مستقبل البشرية ككل.

5- تصاعد عدم الاستقرار العالمي والتنافس الجيواستراتيجي: على الرغم من أن التنافس الجيواستراتيجي بين القوى الكبرى لم يتحول لمواجهات عسكرية مباشرة، إلا أن هناك عدداً من التوترات الحالية يمكن أن تخرج عن السيطرة وتشهد اندلاع مواجهات مسلحة بين تلك القوى. ومن بين الأقاليم المرشحة بقوة لمواجهة حروب قريباً هي: أوكرانيا، وأوروبا الشرقية، ومنطقة الهندوباسيفيك، وتايوان حال سعت للاستقلال عن الصين. حيث تسعى الولايات المتحدة والصين وروسيا لتكثيف تواجدهم العسكري في تلك المناطق، ويقومون بتحديث ترسانة أسلحتهم التقليدية والنووية وكذلك تطوير الصواريخ الباليستية، وذلك رغم تمديد اتفاقية “ستارت الجديدة” حتى عام 2026، مما يشير لوجود “حرب باردة جديدة” بين القوى الكبرى الثلاث.

6- التداعيات الكارثية للانسحاب الأمريكي من أفغانستان: بعد عشرين عاماً من التواجد العسكري الأمريكية في أفغانستان جاء انسحاب واشنطن الكارثي في نهاية أغسطس 2021، ليثير تساؤلات ملحة حول الدور الأمريكي المستقبلي في الشرق الأوسط، والقارة الأوروبية، وحلف شمال الأطلسي “الناتو”، وصعوبة وضع خطط بديلة لمواجهة احتمال تصاعد التنظيمات الإرهابية وإعادة نشاطها بأفغانستان، وأنشطة الهجرة غير الشرعية للدول الأوروبية، وتهريب المخدرات، وتصاعد موجات اللاجئين. ويعكس الانسحاب الأمريكي من أفغانستان تراجع الأولوية الاستراتيجية للشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة، كما يجبر الدول الأوروبية على التفكير في استعدادها وقدرتها على تحمل مسؤولية أكبر لإدارة الأزمات في محيطها الاستراتيجي وجوارها المباشر، مما يجدد الحديث عن ضرورة وجود “جيش أوروبي موحد مستقل”. كما تبرز تساؤلات حول مدى قدرة الغرب على بناء هياكل دولة قادرة وشرعية وتعزيز الاستقرار في حالات الصراع والتكلفة المادية والبشرية لذلك.

بؤرة إفريقية مضطربة

كشف تقرير ميونخ للأمن لعام 2022، عن تصاعد التهديدات الأمنية في منطقة الساحل والصحراء، وكذلك في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر، مما يعني استمرار معضلة الأمن الإفريقية، على الرغم من الجهود الأمريكية والأوروبية للتعامل مع معضلة غياب الأمن والاستقرار في القارة على مدى نحو عقدين، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1- فشل المقاربة الأوروبية في التعامل مع أزمات الساحل: شهدت منطقة الساحل والصحراء، منذ عام 2013، المزيد من التدخلات الخارجية بهدف بناء السلام من قبل عدد من القوى والمؤسسات الدولية الفاعلة، مثل: الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، والجزائر، والولايات المتحدة، وفرنسا. ومع تزايد المشاركة الدولية والتوصل إلى إبرام اتفاق سلام بين الحكومة المالية والمتمردين في شمال البلاد في عام 2015، إلا أن البلاد لا تزال منقسمة، فلا تزال الدولة غائبة إلى حد كبير عن شمال ووسط مالي، وهو ما استغلته الجماعات المسلحة لملء الفراغ هناك.

2- تغلغل روسيا لملء الفراغ الغربي عبر عناصر “فاجنر”: منذ انسحاب القوات الدولية من أفغانستان، في عام 2021، شرع البعض في رسم المزيد من أوجه التشابه بين التدخلات في منطقة الساحل وأفغانستان، وهو ما دفع نحو إعادة التفكير في إنهاء العمليات العسكرية الدولية في مالي والمناطق المحيطة بها. ومع ذلك، فإن المناقشات حول فاعلية التدخلات في منطقة الساحل تسبق فكرة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. وهي تدور بالأساس في كل من فرنسا وألمانيا باعتبارهما من القوى الدولية الرئيسية الفاعلة في منطقة الساحل. ففي فرنسا، تدور المناقشة حول كيفية الحد من النزعة العسكرية للبلاد في الساحل، والشكوك حول فاعلية عملية برخان خلال العقد الماضي، وتخفيض قواتها بعد أحداث الانقلاب العسكري في مالي، في مايو 2021، فضلاً عن مخاطر نشر عناصر قوات فاجنر الروسية. ولا تتماشى الأهداف الروسية مع المصالح الأوروبية للسلام والاستقرار والحكم الرشيد في منطقة الساحل، إذ تترقب موسكو التخفيض المحتمل للمشاركة الأوروبية لاستغلال الفرصة والانخراط في الساحل. وقد يؤدي نشر قوات فاجنر إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي في الساحل، خاصة أن هناك اتهامات تطال مجموعة فاجنر بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في ليبيا والسودان وإفريقيا الوسطى.

3- انكشاف الجهود الإنمائية الدولية بمنطقة الساحل: يعد التصدي للعنف في المنطقة ضرورياً لنجاح الجهود طويلة الأجل مثل التعاون الإنمائي وتعزيز حقوق الإنسان. ومع ذلك، لا تزال الأسباب الجذرية لانعدام الأمن قائمة، بما في ذلك سوء التنمية وانتهاكات حقوق الإنسان والفساد، وهو ما يعني أن العنف والعمليات الإرهابية سوف تستمر في الانتشار. فالمزيد من المبادرات الأمنية لم تقدم شيئاً، بينما تنخرط بعض القوى الدولية في مجموعة واسعة من الأنشطة بما في ذلك التعاون الإنمائي والدبلوماسية ومكافحة الإرهاب وإصلاح القطاع الأمني، وهو ما يعني أن مستويات العنف المتزايدة في مالي والدول المجاورة تمثل مصدر قلق رئيسي لكافة الأطراف. فهناك عدد من العمليات التي تهدف إلى خلق الأمن في الساحل مثل عملية برخان الفرنسية والقوة المشتركة لمجموعة دول الساحل الخمس، ومهام التدريب الأمني والعسكري للاتحاد الأوروبي. وثمة تنافس قوي بين القوى الدولية في المجال الأمني من خلال الصين وروسيا وتركيا، وهو ما يسهم في ازدحام الحضور الأمني في المنطقة.

4- إخفاق الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة الإرهاب: أنشأت دول تشاد ومالي وموريتانيا والنيجر وبوركينافاسو مجموعة دول الساحل الخمس للتصدي بشكل مشترك للتحديات الإقليمية، بما في ذلك ضعف التنمية وانعدام الأمن. وهي تركز في الوقت الحالي بشكل كامل على مكافحة الإرهاب من خلال القوة العسكرية. وفي الوقت ذاته، يقر الاتحاد الأوروبي رسمياً بأن الاستثمارات في التنمية والأمن ضرورية لتحقيق الاستقرار في الساحل. ومنذ عام 2015، تحول تركيز الاتحاد الأوروبي من الأهداف طويلة الأجل مثل تعزيز التنمية الاقتصادية وبناء الدولة المستقرة في الساحل إلى الأنشطة قصيرة الأجل المتعلقة بإدارة الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب. ولا تزال تواجه بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي بعض الصعوبات في الوفاء بتعهداتها الأكثر شمولاً في المنطقة. فقد أضحى عناصرها هدفاً للهجمات الإرهابية. ومن ثمّ هي مشغولة بالأساس في الدفاع عن بنيتها التحتية وأفرادها ضد الهجمات الإرهابية، وهو ما دفعها لتبني نهج يركز أساساً على تحقيق الاستقرار وإدارة الأزمات وحماية القوة، مما يترك موارد أقل للمهام الأساسية مثل حماية المدنيين ودعم استعادة سلطة الدولة. وقد أظهرت السنوات الأخيرة من التدخل الدولي أن التركيز المكثف على توفير الأمن أثبت عدم فاعليته في حل الأزمات بمنطقة الساحل. ولم تُولِ القوى الفاعلة اهتماماً كافياً للأسباب الجذرية للأزمات التي تعاني منها مالي ومنطقة الساحل. فمن دون اعتماد نهج أكثر شمولية يضمن أيضاً تحقيق تقدم في عملية التنمية سوف يكون من الصعب تحقيق نجاحات في مجالات حقوق الإنسان والحكم الرشيد واحترام سيادة القانون والسلام الدائم.

5- تحول منطقة القرن الإفريقي إلى بؤرة للتوتر: تحظى منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي باهتمام جيوسياسي متزايد من مختلف القوى الإقليمية والدولية ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، لارتباطها بأهم طريق تجاري بحري بين الصين وأوروبا، وكونها نقطة ارتكاز رئيسية للتجارة الدولية. ومع ذلك لا تقتصر الأهمية الاستراتيجية لمنطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي على التجارة فحسب؛ إذ تعد هذه المنطقة مركزاً رئيسيّاً للتنظيمات المتطرفة، فهي تأوي أكبر فرع لتنظيم القاعدة في الصومال وهي حركة الشباب المجاهدين الصومالية. كما أنها نقطة انطلاق وعبور لتدفقات اللاجئين غير الشرعيين ولا سيما من إثيوبيا والصومال. وتزداد الرياح المعاكسة لجهود تحقيق الاستقرار في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي. ففي نوفمبر 2020، اندلعت الحرب الأهلية في منطقة تيجراي شمالي إثيوبيا، مما تسبب في تفاقم الأزمات الإنسانية على نطاق واسع. وفي الوقت نفسه، اشتدت المناوشات الحدودية بين إثيوبيا والسودان، وأدت الأحداث التي شهدتها السودان خلال العامين الماضيين إلى خروج التحول الديمقراطي في البلاد عن مساره، كما أن الحرب في اليمن لا تزال مستمرة، بينما تتزايد أزمة الانتخابات الرئاسية في الصومال، فضلاً عن التقلبات السياسية في جنوب السودان. بالإضافة إلى النزاع المستمر بخصوص مياه نهر النيل بين مصر والسودان وإثيوبيا.

6- محدودية دور بعثات حفظ السلام بالقرن الإفريقي: خصصت أوروبا والولايات المتحدة موارد كبيرة لضمان السلام في المنطقة. فهناك عدد أكبر من بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام في القرن الإفريقي أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، مع كون واشنطن أكبر مانح منفرد للمنطقة من الناحية المادية. وكانت واشنطن قد اختارت جيبوتي لقاعدتها العسكرية الدائمة الوحيدة في إفريقيا. وهي تخطط لمواصلة عمليات مكافحة الإرهاب في حقبة ما بعد أفغانستان، خاصة في اليمن والصومال والساحل الشرقي لإفريقيا. ويُعد الاتحاد الأوروبي أكبر مانح إنساني وتنموي في منطقة البحر الأحمر، وأكبر مانح لبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (أميصوم). كما يدير ثلاث بعثات وعمليات مشتركة لسياسة الأمن والدفاع في القرن الإفريقي. وقد شملت الجهود الغربية تفعيل الأداة الدبلوماسية لنزع فتيل التوترات الإقليمية، وكان الهدف من ذلك هو تحييد القرن الإفريقي عن المنافسات في منطقة الشرق الأوسط. بيد أن وجود القواعد العسكرية لعدد من القوى الفاعلة في المنطقة من شأنه أن يخلق توترات فيما يتعلق بالسيطرة على طرق التجارة البحرية. كما لم يتم بعد الاستجابة لدعوات الاتحاد الأوروبي وغيره من أجل إنشاء هيكل أمني إقليمي يمكن أن يضفي الطابع المؤسسي على إدارة الصراع في المنطقة.

التصعيد الروسي بأوروبا

جاءت نهاية العام 2021 وبداية العام 2022 كاشفة وبشدة عن تزايد الخطر الروسي على أمن القارة الأوروبية ومظلة الناتو الدفاعية على ضفتي الأطلسي، حيث يظل حلم روسيا باستعادة مناطق النفوذ التي خسرتها عند تفكك الاتحاد السوفيتي في نهاية الحرب الباردة من أبرز العوامل المحدِّدة للسلوك الروسي في منطقة شرق أوروبا، وهو ما يتضح حالياً في تفاقم أزمة أوكرانيا في ظل تحذير الولايات المتحدة وأوروبا من أن روسيا تستعد لغزو أوكرانيا. ويمكن تناول الدوافع المحفزة لسياسة روسيا الخارجية تجاه منطقة شرق أوروبا وملامحها، وكذلك الارتدادات العكسية للأزمة الأوكرانية، على النحو التالي:

1- رفض روسيا قواعد النظام الدولي الداعمة للغرب: يكمن محور التوتر في العلاقات بين روسيا والغرب في أنه في الوقت الذي يعتقد فيه الغرب أنهم يتفاعلون مع موسكو بالاستناد إلى “إطار عمل متبادل المنفعة للتعاون على أساس قواعد متفق عليها بشكل مشترك”، فإن روسيا ترى أن قواعد النظام العالمي الموضوعة في فترة ما بعد الحرب الباردة ما هي إلا محاولة لترسيخ هيمنة الغرب مع تعمد استبعاد روسيا، إذ إن خضوع الكرملين لفكرة أنه تعرض للخداع من قبل الغرب في الحرب الباردة كان أكثر قبولاً بالنسبة للقيادة الروسية من الإقرار بتعرض الاتحاد السوفيتي للانهيار. ويعتقد بعض المحللين أن “المحرك الأساسي لعالم بوتين هو السعي لجعل الغرب يتعامل مع روسيا كما لو كانت الاتحاد السوفيتي”، خاصةً مع اعتقاد بوتين أن انهيار الاتحاد السوفيتي شكّل كارثة جيوسياسية رئيسية في القرن العشرين.

2- تفعيل الرؤية الروسية بشأن “مجال النفوذ” الحيوي: تُظهر مسودات المعاهدات الأمنية الجديدة المقترحة بواسطة روسيا عدم تخليها عن حلم التوسع الذي يطارد الكرملين منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وإصرارها على أن تمتلك “مجالاً للنفوذ” في المنطقة، وهو ما يعني الجَوْر على حق الدول المجاورة لروسيا في التمتع بالسيادة الكاملة. كما توضح المسودات مطالب روسيا بإنهاء حلف الناتو سياسة “الباب المفتوح” للحد من انضمام المزيد من الدول للحلف. وبالتالي، يبدو أن موسكو تتصور “نظام ما بعد الغرب” تهيمن عليه قوى عظمى محدودة تعمل في إطار “مجلس إدارة عالمي”، حيث تتمتع فيه القوى العظمى بوضع خاص وأماكن نفوذ محددة في النظام الدولي.

3- اعتبار أوكرانيا مفتاحاً للهيمنة الروسية بالمنطقة: تُعد أوكرانيا مفتاحاً رئيسياً لبوتين في ممارسة النفوذ والسيطرة على دول الجوار، حيث ينظر بوتين لأوكرانيا باعتبارها أداة رئيسية لتحقيق فكرة “الأمة الروسية الكبيرة”. كما يعتقد بوتين أن أوكرانيا جزءٌ من روسيا، وهو ما يفسر تمييز بوتين بين الشعب الأوكراني وبين القيادة في كييف، حيث يَعتبر المسؤولين الأوكرانيين تابعين للغرب ولا ينبغي لروسيا أن تتفاوض معهم. وقد لجأ بوتين لاستخدام القوة العسكرية أو التهديد باستخدامها لإجبار الغرب على التحول للاهتمام بمصالح روسيا الأمنية، خاصةً مع عدم فاعلية الخطاب الدبلوماسي لبوتين في توصيل رسالة للغرب مفادها أن تحركاته في شرق أوروبا تقوض المصالح الروسية التي يعتبرها بوتين مشروعة في دول الجوار. وأشار التقرير إلى أن الوقت قد حان لكي يدرك الغرب أن القرارات التي اتخذتها موسكو وتجاوزت بموجبها الخطوط الحمراء في المنطقة، فضلاً عن ارتكابها العديد من الأعمال العدائية خارج حدودها، والتي من بينها على سبيل المثال محاولة التأثير على نتائج الانتخابات الديمقراطية من خلال الحملات الإلكترونية المضللة؛ لا تشير إلى ارتكاب الكرملين أخطاء وإنما أضحت إحدى سمات السياسة الروسية.

4- بناء نظرة سلبية تجاه روسيا كتهديد للسلم العالمي: أدت سياسات بوتين إلى “تغيير الحالة المزاجية حتى في دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي التي يُنظر إليها عادةً على أنها صديقة لروسيا، والتي من بينها إيطاليا وفرنسا وألمانيا”، حيث تزايدت وجهات نظر الشعوب في هذه الدول بأن روسيا باتت مصدر تهديد لبلادهم. ومن ثم تسبب سلوك روسيا في تحول رؤية الأعضاء في حلف الناتو لكيفية التفاعل مع موسكو من الرغبة في “رؤية شراكة استراتيجية حقيقية بين الناتو وروسيا”، إلى تبني المفهوم الاستراتيجي الجديد المفترض اعتماده في قمة مدريد المقررة في يونيو المقبل، والذي يركز على فكرة الدفاع الجماعي، وهو ما يعتبره بعض الأعضاء غير كافٍ لمواجهة التهديدات الروسية، ومن ثم اقترح بعض الدول الأعضاء أفكاراً لتعزيز قوة الناتو في عدة مناطق لمواجهة العدوان الروسي.

5- مخاطرة روسيا بفقدان أحد أهم مشاريعها الجيواقتصادية: يعتقد البعض أن ألمانيا ستتردد في استعداء روسيا، على خلفية أزمة أوكرانيا، للحفاظ على مشروع خط أنابيب الغاز (نورد ستريم 2)، في ظل دعوات بعض الدول لبرلين لكي توظف المشروع للضغط على روسيا، وهو ما يعرض أحد أهم المشاريع الجيواقتصادية الروسية للخطر في الوقت الحالي. وقد اتّجهت العديد من الدول الأوروبية المحايدة إلى تعميق التعاون مع كل من حلف الناتو والولايات المتحدة، ومن بينها السويد وفنلندا، في محاولة للبقاء في كنف الغرب لضمان الأمن كنتيجة للسياسات الروسية. ومن جانب آخر، تزايد التنسيق بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو للاستعداد لفرض عقوبات على روسيا في حال استمرت روسيا في إجراءاتها التصعيدية ضد أوكرانيا. وبالتالي، أفضت سياسات روسيا إلى المضي قدماً ولو بشكل بطيء في تحقيق أحد مخاوفها وهو التعاون العميق بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. كما اتجه الاتحاد الأوروبي لتعزيز الأدوات التي يمتلكها لمواجهة الهجمات السيبرانية، وتعزيز القدرات الاستخباراتية في ظل تفاقم المخاطر المنبثقة في هذه المجالات من روسيا.

عدم الاستدامة وتداعيات الجائحة

كشفت جائحة كوفيد-19 عن نقاط الضعف التي تعاني منها سلاسل التوريد العالمية وخاصةً سلاسل التوريد التكنولوجية، وهو ما يتطلب من الدول نهجاً فعالاً للحد من انقطاع سلاسل التوريد في ظل تزايد المنافسة التكنولوجية بين الدول، كما كشفت الجائحة عن تزايد الفجوة وعدم المساواة العالمية، والتي اتخذت العديد من الصور ومن بينها الفصل العنصري والتمييز بين الأشخاص القادرين على الوصول للقاح وبين الأفراد الذي لا يمتلكون هذه القدرة، فضلاً عما تمخّضت عنه حالة عدم العدالة الاجتماعية في تفاقم الاضطرابات الاجتماعية بالعديد من الدول، والحديث عن مساهمة التحول غير المتكافئ للطاقة في تعميق الفروق العالمية، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:

١- هيمنة الصين على سلاسل التوريد التكنولوجية: برزت العقبات التي اعترضت عمل سلاسل التوريد في السلاسل الخاصة بالتكنولوجيا بشكل خاص، حيث أُغلقت العديد من خطوط الإنتاج في مختلف القطاعات نظراً للنقص العالمي في إمدادات أشباه الموصلات. واستغلت الصين سيطرتها على حصة ضخمة من المواد الخام، من بينها التربة النادرة، اللازمة لتصنيع أشباه الموصلات لتعمد إحداث نقص في المعروض على الدول، ومن ثم اكتساب القدرة على التأثير السياسي. كما كشفت جائحة كوفيد-19 عن مدى الهشاشة التي تتسم بها سلاسل التوريد الخارجية، خاصةً التكنولوجية، والتي ظهرت بشكل واضح في نقص الإمدادات، إذ لفتت الجائحة الانتباه إلى أن نقاط الضعف التي تتسم بها سلاسل التوريد لا تقتصر على القوى الجيوسياسية المالكة للإمدادات، وإنما تتأثر كذلك بالمخاطر الطبيعية. وقد ترتب على إدراك المخاطر السابقة توجه الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها من الاقتصادات التكنولوجية الفائقة إلى تعزيز سياساتهم الصناعية، فضلاً عن اتجاه الدول إلى “التوطين الداخلي”، والذي يعني تحويل الإمدادات من خارج الدولة إلى داخل حدودها الوطنية، وهو ما سيحسن من قدرة الدول على المنافسة الاستراتيجية عبر التغلب على مخاطر سلاسل توريد التكنولوجيا. ووفقاً للتقرير فإن هناك صعوبة في تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال في ظل اتجاه عمالقة الرقائق الدولية لبناء مصانع على أراضيهم للإمدادات المحلية، ومن ثم “صعوبة استبدال سلسلة القيمة العالمية لأشباه الموصلات بسلاسل قيمة وطنية أو إقليمية مكتفية ذاتياً” نظراً لتكلفتها المرتفعة. ولفت التقرير إلى زيادة التنسيق بين الشركاء المتشابهين في التفكير بشأن مرونة سلاسل التوريد التكنولوجية بالفعل في محاولة لتشكيل أداة طوارئ لسلسلة التوريد العالمية.

٢– تزايد انكشاف الفئات المهمشة والدول الفقيرة: كشفت الجائحة أن الفيروس أضر الفقراء وغيرهم من الفئات المهمشة في مختلف المناطق بالعالم بشكل أكبر من الدول الغنية، حيث أظهرت الجائحة الوصول غير المتكافئ للقاحات في ظل مشاركة الدول المنتجة للقاحات لعدد محدود، وهو ما لفت الانتباه إلى كيفية مساهمة الفروق الطبقية والاجتماعية العالمية في تهديد الأمن العالمي وليس الأمن البشري فقط، إذ إنه في ظل عدم توافر القدرة لدى الدول النامية على مواجهة الفيروس فلن يتمكن العالم بأجمعه من التخلص من الوباء، فضلاً عن تعرض الاحتواء الناجح لبعض الدول في التعامل مع الأوبئة للتهديد في حال عدم تمكين الدول النامية من مواجهتها، بالإضافة إلى ارتفاع مخاطر ظهور سلالات جديدة في المناطق الأقل تحصيناً، وهو ما يعرقل نجاح الدول الأخرى بما يؤثر على الأسواق المالية العالمية والتسبب في أزمات اقتصادية والتأثير على سلاسل التوريد العالمية. ويتوقع الخبراء أن تتفاقم حالة عدم المساواة العالمية مدفوعة بتداعيات جائحة كوفيد-19، خاصةً وأنه لا تزال الفجوات العالمية مرتفعة بشكل كبير، حيث إن الأمريكيين في شمال أمريكا يكسبون 16 مرة أكثر من الأشخاص الذين يعيشون في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى على سبيل المثال، علاوة على ارتفاع عدم المساواة داخل البلاد نفسها، ولا سيما في الاقتصادات المتقدمة التي تعاني من فجوات كبيرة في الدخل للعديد من الاعتبارات ومن بينها العرق.

3- عدم حصانة الاقتصادات المتقدمة أمام الجائحة: من المحتمل أن تتجاوز آثار عدم الاستقرار داخل الدول النامية والفقيرة لتؤثر على الاقتصادات المتقدمة، وهو ما ظهر تاريخياً في الحرب العالمية الثانية التي اندلعت نتيجة لتفاقم حالة الحرمان في الدول التي تزايدت شدتها بعد الحرب العالمية الأولى. كما أنه مع زيادة الصراع العنيف في الدول النامية، سيتمكن المتطرفون والجهات الفاعلة العنيفة من الحصول على أرض خصبة ومجال لتجنيد الأشخاص وتهديد أمن الدول الأخرى. واقترح التقرير تخفيف ديون أفقر دول العالم بشكل حقيقي، وتحقيق توازن بين المبالغ التي تخصصها الدول الغنية للمساعدات الدولية وبين الأموال المخصصة لبرامج التحفيز المحلية. وبالنسبة لتوزيع اللقاحات، ينبغي على الدول وضع مخطط لتوزيع اللقاحات وفقاً لـ”احتياجات الصحة العامة العالمية”، وإعطاء الأولوية لنشر اللقاحات في الدول التي ترتفع بها معدلات الإصابة. كما أكد التقرير على ضرورة دعم الدول لمبادرة كوفاكس عبر زيادة التبرع باللقاحات وتسريع عمليات الإنتاج لتعزيز قدرة المبادرة على توصيل اللقاحات إلى الفئات السكانية الأكثر ضعفاً في العالم.

وختاماً، أشار التقرير إلى أنه بالنظر لعدم التكافؤ بين الدول الفقيرة والغنية، فإن الدول الفقيرة “لا تفتقر فقط إلى رأس المال والمعرفة والتكنولوجيا اللازمة لمتابعة إزالة الكربون والتحول إلى الطاقة المتجددة؛ ولكنها قد تفقد أيضاً الميزة التنافسية التي تأتي مع الطاقة الخضراء”، وهو ما سيساهم في تعميق حالة عدم المساواة العالمية. وفي حالة استمرار تحول الدول المتقدمة إلى الطاقة النظيفة مع عدم توافر قدرة الدول النامية على القيام بذلك فلن تتمكن الاقتصادات المتقدمة من مكافحة التغير المناخي، لا سيما أن معظم الانبعاثات تخرج بالفعل من العالم النامي، خاصةً مع التوقعات التي تشير إلى تضاعف عدد سكان إفريقيا وتجاوز استهلاك الطاقة في القارة استهلاك الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2050. وأكد التقرير على ضرورة اتجاه الاقتصادات المتقدمة لمعالجة الصراعات الاقتصادية التي تعاني منها الدول النامية لكي تتمكن من مساعدة الدول على مواجهة التهديدات الدولية ولتعزيز النمو العالمي الشامل.

المصدر:

Tobias Bunde, Sophie Eisentra Knapp, Randolf Carr, Julia Hammelehle, Isabell Kump, Luca Miehe, and Amadée Mudie-Mantz “Munich Security Report 2022: Turning the Tide – Unlearning Helplessness, ” Munich: Munich Security Conference, February 2022, https://doi.org/10.47342/QAWU4724

عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

اترك تعليقا