المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

هل كازاخستان هي الرسالة الثانية بعد أفغانستان؟

قال رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، إنَّه تولّى مهام منصب رئيس مجلس الأمن القومي، وتوعّد بأن يتعامل “بأقصى درجات الحزم”، وسط أسوأ اضطراب يحدث منذ أكثر من عقد في الجمهورية الواقعة في آسيا الوسطى.

وقد دخلت مجموعة من المتظاهرين مبنى الإدارة الرئيسي في ألماتي، العاصمة الاقتصادية لكازاخستان، فيما فرضت الحكومة الكازاخستانية حالة الطوارئ في العاصمة نور سلطان، في إثر انتشار احتجاجات ضد زيادة أسعار الغاز المسال في البلاد.

وجد الكثير من المحلّلين في الشأن الاستراتيجي أنَّ إقدام الولايات المتحدة على الانسحاب من أفغانستان خطيئة تُسجّل في لائحة فشل إدارة الرئيس جو بايدن، إذ سقط من تحليلاتهم أنَّ سياسات بايدن الخارجيّة ترتكز على “الحرب الناعمة” (Soft War) التي تعتمد على عنصر التظاهرات والاحتجاجات لإسقاط الأنظمة، وليس على “الحرب الخشنة” (Rough war) التي ترتكز على القوّة العسكرية.

إنَّ انسحاب أميركا من أفغانستان شكّل بداية سقوط الأنظمة تماماً، كسقوط أحجار لعبة الدومينو في منطقة آسيا الوسطى، إذ إنّ إمساك حركة “طالبان” بأفغانستان فتح شهية الحركات التغييرية في المنطقة لبسط سيطرتها. لهذا، أتت تصريحات توكاييف عن التحركات في بلاده بأنها احتجاجات ذات طابع إرهابي.

ككرة الثلج، تتسارع التطورات الدراماتيكية المفاجئة في كازاخستان، التي لطالما تميّزت بالاستقرار السياسي منذ نحو 30 عاماً، خلافاً للجمهوريات السوفياتية السابقة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ما يطرح الإشكالية التالية: هل ما يحدث في هذه البلاد يعتبر رسالة أميركية مزدوجة لدول الجوار من جهة، بهدف خلق الفوضى فيها، ما يهدد أمنها القومي، وفرض السيطرة على موارد البلاد من جهة ثانية، وعلى بحر قزوين تحديداً، أو هو ضربة استباقية، من خلال قلب النظام وتطويق حركة “طالبان” في أفغانستان، تنفّذها القيادة الروسية لوضع اليد على البلاد التي تهدّد فعلياً أمنها القومي على حدودها التي تمتد إلى حوالى 4.750 ميل، وهي أطول حدود دوليّة تتقاسمها كازاخستان مع دولة ما؟

التخوّف الروسي من انفلات الوضع في كازاخستان أعربت عنه وزارة الخارجية الروسية على لسان الناطقة الرسمية، ماريا زاخاروفا، إذ قالت إنَّ “الأحداث في كازاخستان هي محاولة مستوحاة من الخارج من أجل زعزعة استقرار البلاد وأمنها بالقوة”.

لهذا، سارعت منظَّمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا، الخميس 5 كانون الثاني/يناير 2022، إلى اتخاذ القرار “بإرسال قوات حفظ السلام إلى كازاخستان، تلبية لطلب وجّهه إليها رئيس البلد الغارق في احتجاجات شعبية استدعت فرض حالة طوارئ”. هذا ما ذكره رئيس المنظمة ورئيس وزراء الأرميني، نيكول باشينيان، من خلال “فيسبوك” المنظمة.

إنَّ اهتمام روسيا بدا واضحاً، وأتى ردها سريعاً بشيطنة المحتجين والوقوف إلى جانب الحكومة الرسمية في البلاد، لأنّها اعتبرتها بمثابة حركة انقلابية من الدول الغربية، في محاولة لاستنساخ الأزمة الأوكرانية بنسخة جديدة في آسيا الوسطى مع كازاخستان، عبر خلق فوضى عارمة في البلاد تنعكس سلباً على الاقتصاد الروسي بشكل مباشر، إذ تعتبر روسيا المصدّرة الأولى إليها. وقد قدّرت مشتريات كازاخستان من روسيا من المنتجات المعدنية في العام 2021 بنسبة 32%، أي ما يعادل 20 مليار دولار، ويدرك اللاعب الروسي أنَّ السقوط لن يتوقّف على كازاخستان، بل سيمتد إلى دول الجوار، ما يجعل المنظمات الإرهابية التي تحاربها في سوريا على حدودها.

تكتسب منطقة آسيا الوسطى والقوقاز أهمية كبيرة في النظام الدولي من الناحية الاستراتيجية والجيوسياسية، إلى درجة وصفها زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي، بأنها “تمثل المتغيّر الذي يعتبر مفتاح السيطرة على العالم، لأنَّ من يتمركز في آسيا الوسطى ويرسي فيها قواعده، سيتيح لنفسه القرب والإطلالة الأكثر سهولة والأقل كلفة على العمق الحيوي الروسي باتجاه الشمال، والعمق الحيوي الصيني باتجاه الجنوب الشرقي، والعمق الحيوي لشبه القارة الهندية وباكستان وأفغانستان باتجاه الجنوب، والعمق الحيوي الإيراني باتجاه الجنوب الغربي، والعمق الحيوي لكامل منطقة بحر قزوين، بما فيها تركيا باتجاه الجنوب”.

هذا العمق الحيوي يشكّل مطمعاً مهماً للولايات المتحدة للسيطرة عليه وممارسة النفوذ فيه، لأنَّ السيطرة على موارد منطقة آسيا الوسطى تسمح لها بإمكانية التحكّم في إمدادات النفط والغاز المسال والموارد الطبيعية، في حين تسعى الولايات المتحدة لاحتلال الصدارة في تصدير الغاز المسال الطبيعي هذا العام.

لذلك، تهتمّ بخلق فوضى عارمة في تلك المنطقة، كي تفرض واقع انهيار الأنظمة الموالية لروسيا والصين، ما يؤثر مباشرة في تدخلاتهما في قضايا أخرى، ولا سيّما التأثير في إيران في تقديم التنازلات بما يتعلّق بملفها النووي، ودعمها لحلفائها في منطقة شرق آسيا.

صحيح أنَّ سيناريوهات الأحداث المقبلة في تلك البقعة الجغرافيا من العالم كثيرة، لكنّ المؤكّد أنَّ المصطادين بما يحدث الآن كثر، ولا سيما أنّ لكل طرف مصالحه الاستراتيجية هناك، وأنَّ ردود الفعل في كازاخستان لن تتوقّف على تلك المنطقة بالذات، بل ستمتد إلى منطقة آسيا الوسطى بشكل مباشر، وعلى آسيا بشكل غير مباشر.

أخيراً، من السّابق لأوانه التكهّن بما قد يحدث في المنطقة، والطّرف المحرك الرئيسي فيها، لأنّ المخاض في بدايته، ويبدو أنّ الولادة قد تطول في ظلّ التناتش الدولي على مناطق النفوذ في العالم، تحديداً في آسيا الوسطى. شدة الاحتدام على ضفاف بحر قزوين قد تدفع مفاوضات فيينا إلى خواتيم سعيدة، لأنَّ منطقة الشرق الأوسط لم تعد أولوية لدول الصراع، إذ من مصلحة الولايات المتحدة تأجيج الصراع في منطقة تشكّل طموحات طريق الحرير الصيني، وحلم أوراسيا الروسي، والتوسّع الإيراني.

جيرار ديبجيرار ديب

اترك تعليقا