المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

صدور كتاب (ما وراء التطبيع)

يعد التطبيع العربي مع إسرائيل أحد أهم الموضوعات التي تشهدها الساحة الإقليمية هذه الفترة، حيث تكشف بما لا يدع مجالاً للشك، مهما تعددت مبرراته وأسبابه هشاشة النظم العربية، وتشتت استراتيجياتها الدافعة للبقاء والاستمرار، أو البحث عن مراكز القوى في المنطقة، الأمر الذي أدخلها مرحلة غير مسبوقة تهدد بتفكك النظام العربي وانهياره التام، وتدفع باتجاه تحوله من نظام قومي إلى مجرد نظام (إقليمي) يتكون من عدة دول لا يجمعها التجانس الديني أو العرقي أو الطائفي.

إن الدعوة إلى التطبيع- وإن كنا نرى في المصطلح غبن للمعنى-تمثل سياسة فعلية باشرتها الحكومات العربية المتعاقبة (المعنية بالتطبيع) بحكم اتفاقيات أو تفاهمات عقدتها مع إسرائيل بعد سنوات من الحرب، مثل (مصر، الأردن)، أو بحكم اتصالات سرية لا يسبقها أي نوع من الصراع مثل دول الخليج العربي، كما يمثل توجهاً رسمياً للحكومات غير ملزم للشعوب التي في غالبيتها ترفضه وتعتبره خروجاً عن الموقف العربي باعتبار(إسرائيل) عدوة وليست صديقة.

لذا، تكمن خطورة التطبيع وموجاته الأخيرة في أنها تأخذ طابع التأثير على أغلب أوجه الحياة العربية، فلم تقتصر على الجانب السياسي، بل هدفت إلى نقل آثاره من الصعيد الرسمي إلى الصعيد الشعبي (الجماهيري) وذلك كخطوة سعت لها إسرائيل طويلاً، وهي فرض شرعيتها في إطار يجعل الشعوب العربية تتقبلها كصديق، مراعية بذلك الأبعاد الطبقية المختلفة للجمهور العربي، وسحبه باتجاه تهميش جرائم إسرائيل كمحتل لأرض عربية، وكسر نظرية الأرض مقابل السلام.

لقد فرضت عملية التطبيع الأخيرة(الاتفاق الإبراهيمي) مجموعة من الإشكاليات للأمن القومي العربي، وللقضية الفلسطينية، فعلى الصعيد السياسي، استطاعت إسرائيل التعنت تجاه شروط التسوية، وحيدت القضية الفلسطينية كمحدد للعلاقات العربية-الإسرائيلية، ودفعت النظام العربي إلى مزيد من الانقسامات، وتراجعت دول المركز والثقل العربي في توجيه الاستراتيجية نحو تحديد العدو من الصديق، وعلى الصعيد الأمني، فرضت التحولات اعتبار أن إيران هي العدو وليس إسرائيل، إضافة إلى السماح بالتدخل الإسرائيلي والتعاون في مجال المعلومات والتجسس.

وعلى المستوى الاقتصادي فإن التطبيع مع إسرائيل سمح لها باختراق الهيكل الاقتصادي العربي خاصة في دول الخليج، وسيزيد من أسواق إسرائيل لبيع وتسويق منتجاتها، وعلى الصعيد الثقافي والأيديولوجي، فقد بدأ التطبيع يؤثر على النسق القيمي للنظام العربي، وذلك بضرب فكرة العروبة، وبث الخلافات بين المثقفين والعلماء من خلال الإعلام حول جدوى عملية التطبيع بين (القبول، المعارضة).

ولما كانت إسرائيل في الأصل دولة غير طبيعية، ليس فقط بسبب عوامل نشأتها التاريخية فحسب، بل لأنها دولة (الاحتلال الأخير) على سطح الكرة الأرضية، ودولة الاستيطان (الإحلالي)، ودولة العنصرية بكل أشكالها، فإن التطبيع مهما كانت مبرراته هو فعل (مرذول)، لأنه لا يوجد تطبيع حلال وآخر حرام، ولا يوجد تطبيع جيد وآخر سيء.

ولما كانت القدس تمثل الجرح الذي لم يندمل منذ عقود، وتعتبرها إسرائيل هدية الرب، فقد أعطاها التطبيع الضوء الأخضر لتنفيذ مخططاتها بتهويد المدنية، وطمس معالمها العربية والإسلامية، خاصة إذا ما أثبتت الأحداث تورط بعض الدول المطبعة في أفعال لأغراض سحب الوصاية الأردنية على المقدسات، وشراء المستوطنين الإسرائيليين لأراضي بالقدس بأموال عربية، فإن الأمر يصبح أكثر من مجرد علاقات بين العرب وإسرائيل لأجل السلام والاقتصاد والتعاون الأمني، وسيكون إلغاء جذري وشامل ومنهجي ومخطط للأمة العربية وتاريخها وثقافتها وقيمها الأخلاقية والدينية، وشخصيتها القومية وتحويلها إلى أمة بلا موروث ثقافي حقيقي، أمة تدور في رحى الآلات الاقتصادية والانبهار بالتقدم العلمي والتقني الإسرائيلي.

لذلك، كان التطبيع الثقافي بأشكاله (الإعلام، التعليم، التربية…) من أخطر أشكال التطبيع المختلفة لأن هدفه الوصول إلى عقل المواطن العربي، وضرب المناعة النفسية والانتماء لديه، ودفعه للقبول بإسرائيل وضرورة مشاركتها في كل القطاعات، بعد التحولات التي ستكون ملزمة للدول المطبعة والتي بدورها ستعمل على التغيير في المناهج الدراسية والأعمال الفنية بما لا يظهر العداء لإسرائيل، وتزييف العديد من الحقائق المتعلقة بالطريقة الاستيطانية لها، والتوقف عن البحث والكتابة والتأليف في مواد تكشف الحقيقة.

ولما كان المثقف أول من يقاوم وآخر من ينكسر، فإن الجبهة الثقافية تحديداً هي أكثر الجبهات مقاومة للتطبيع فاعلية وتأثيراً، بسبب الوعي الاجتماعي والسياسي للنخبة المثقفة، وعليه جاء هذا الكتاب ليعرض مجموعة من الدراسات المعمقة التي تبحث في انعكاسات التطبيع، وهي على النحو التالي:

– الدراسة الأولى: هدفت التعرف إلى آراء عينة من الكتاب والمثقفين حول انعكاسات التطبيع مع إسرائيل على المشهد الثقافي العربي، وعلاقتها بمتطلبات تعزيز الجبهة الداخلية الفلسطينية، وذلك من منطبق أن الرؤية العربية الرافضة للتطبيع يجب ألا تسقط في فخ التماهي مع خطاب الكراهية والرفض العنصري لليهود كأصحاب ديانة إبراهيمية، وهذا ما تحاول إسرائيل دائما تصويره (وتصديره) إلى العالم لتشويه موقف الرافضين لتطبيع العلاقات معها، وأن الرؤية الرافضة للتطبيع يجب أن تظل رؤية متمسكة برفض مشروع تهويد وضم الأرض التي ما زالت توصف بالمحتلة وفقا لأحكام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.

– الدراسة الثانية: هدفت التعرف إلى انعكاسات التطبيع على الخطاب التربوي العربي، في ظل الخطوات العملية للدول المطبعة في مجال تغيير مضامين بعض المناهج التي تعرف إسرائيل كعدو محتل، وانطلاقا من أن دور الخطاب التربوي الحاضن أو الحامل للمفاهيم الوطنية المتعلقة بالانتماء والعروبة والحقوق يجب ألا ينحصر في الابلاغ، وأن تتولى الوسائط والمحاضن التربوية نشر المضامين حول رفض التطبيع بالطرق المجدية، وبالأساليب القادرة على احتواء أهداف التربية وفلسفة المجتمع العربي، وتحويله إلى واقع وقناعة ملموسة.

– الدراسة الثالثة: هدفت إلى تحديد المركز القانوني لمدينة القدس تاريخياً وقانونياً، والتعرف إلى مكانة مدينة القدس في القرارات الدولية، وتحديد انعكاسات القرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل على القضية الفلسطينية، وذلك في ظل تعنت إسرائيل، وعدم التزامها بوقف ممارساتها الاستفزازية، أو باحترام مشاعر المسلمين والمقدسات، رغم كل القرارات الدولية التي تدينها، وأخذها للضوء الأخضر بعد توقيع معاهدات التطبيع مع الدول العربية. إضافة إلى تأصيل انعدام قرار الولايات المتحدة القاضي بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وذلك لمخالفته لقواعد آمرة وأحكام عامة في القانون الدولي، وعدم ترتب المسؤولية الدولية الداعمة لعدم الاعتراف بقرار الولايات المتحدة.

– الدراسة الرابعة: هدفت التعرف إلى واقع جهود المؤسسات الثقافية في الحفاظ على مكانة القدس، وإلى الانتهاكات الإسرائيلية للمشهد الثقافي في القدس ومحاولات تهويدها، ومن ثم صياغة رؤية استشرافية لتعزيز جهود المؤسسات الثقافية في الحفاظ على مكانة القدس، في ظل ما يعاني قطاع الثقافة والفنون من صعوبات كبيرة بسبب الممارسات الإسرائيلية، وقلة الإمكانيات المادية وبسبب الاحتواء والسيطرة الذي حاولت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة انتهاجه، بعد أن تجاهلت حاجات السكان الفلسطينيين لعدة عقود.

– الدراسة الخامسة: هدفت الدراسة التعرف إلى تصورات طلبة الجامعات حول دور المثقفين في الحد من الآثار الاجتماعية للحصار في المجتمع الفلسطيني، وذلك من باب ما للمثقفين والدعاة من في الحفاظ على هذا البناء والحد من التحديات التي تواجهه في ظل تداعيات العولمة والغزو الفكري واختلاط المفاهيم، وتزاحم الضغوط الداخلية والخارجية، والتي أثرت على شخصية الإنسان الفلسطيني، وما أثاره المرجفين من شائعات حول الحصار ومشروعيته في ظل الانقسام السياسي، حتى أصبح الحليم حيراناً، وفي الوقت الذي تتداخل فيه المصالح ويوسد الأمر إلى غير أهله.

إن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء دعوات التطبيع تخفي حقيقة مفادها أن بعض الحكومات العربية اليوم تعيش أزمة ثقة بالنفس، واضطرابا في التصوّرات وحالة شك متبادل في الآخر العربي مقابل ثقة غير مفهومة ولا مبرّرة في الآخر الإسرائيلي، الأمر الذي دفع إسرائيل لاستغلال هذا الاضطراب فاجتهدت أكثر على مشروعها الاستراتيجي (تثبيت الشرعية والقبول الدولي) من منطلق إدراكها أن هذه فرصتها السانحة قبل أن تتغيّر الأحوال والمعطيات.

راهنت إسرائيل على التطبيع من دون أن تدفع مقابلا ذو صلة بتسوية القضية الفلسطينية، أو إعادة الحقوق إلى أصحابها.

اترك تعليقا